إلى رحمة الله

الكاتب الأديب الدكتور الشيخ ضياء الدين الإصلاحيّ رحمه اللّه

1356-1429هـ = 1937 – 2008م

 

 

في نحو الساعة 6,30 من صباح يوم السبت: 23/ محرم 1429هـ الموافق 2/ فبراير 2008م انتقل إلى رحمة الله تعالى العالم الكاتب الأديب الأرديّ الوقور الدكتور الشيخ ضياء الدين الإصلاحي رحمه الله بعد حادث اصطدام على الشارع تَعَرَّضَ له في الليلة المُتَخَلِّلة بين الجمعة والسبت 22-23/ محرم 1429هـ = 1-2/ فبراير 2008م أُدْخِلَ إِثره المستشفى التابع لكليَّة الطبّ بجامعة "بنارس" الهندوسيَّة . رفع الله درجاته وأدخله فسيح جنَّاته وجزاه خيرًا عما قدّمه من أعمال جليلة كتابيَّة وتأليفيَّة وبحثيَّة عصر فيها طاقاته الفكريّة والعلميّة، وعاش حياتَه منصرفًا إليها، عاكفًا عليها، مهتمًّا بها وحدَها.

       كان الشيخ قد سَعِدَ بأداء فريضة الحجّ لعام 1428هـ ، ولما عاد إلى الهند قام بزيارة المعارف والأقارب ، وضمنَ ذلك كان مُتَوَجِّهًا إلى قرية "سرائي مير" الشهيرة بمديرية "أعظم جراه" بولاية "أترابراديش" إذ انقلبت سيارتُه، وأسفر الحادثُ عن إصابته هو بجروح خطيرة بالإضافة إلى زوجته، التي بَرِئَت بعد العلاج؛ ولكنّه – رحمه الله – وافاه الأجلُ المحتومُ الذي إذا جاء لا يُؤَخرَّ.

       في صباح يوم الأحد 24/ محرم 1429هـ = 3/ فبراير 2008م في نحو الساعة العاشرة والنصف، صُلِّي عليه ودفن في محيط مجمع دارالمصنفين بجوار كبار العلماء الكتاب الأدباء، أمثال العلامة شبلي النعماني (1274-1332هـ = 1857-1914م) والسيد صباح الدين عبد الرحمن (المتوفى 1987م/1408هـ) ومن إليهما.

       وخلّف رحمه الله وراءَه إلى جانب زوجته ثلاثة بنين وثلاث بنات. ألهمهم الله جميعًا الصبرَ والسلوان ، وأجزل لهم أجر الحزن على المصاب الكبير.

       كان الشيخُ ضياء الدين عالمًا دينيا وكاتبًا أديبًا ومُؤَلِّفًا وقورًا باللغة الأرديَّة، مُتَخَرِّجًا في الكتابة في مدرسة كتابات العلاَّمة شبلي النعماني رحمه الله الذي يُعَدُّ بحقّ من الأركان الأربعة أو الخمسة الذين أَسَّسُوا النثر الأرديّ الفنّي الحديث – الذي من مُقَوِّمَاته الجزالةُ والفخامةُ ، والسلاسةُ والسهولةُ ، والعذوبةُ والعفويَّةُ، ودقةُ التعبير، وجمالُ الصياغة، وإحكامُ النسج، واجتنابُ الحَشْو من الكلمات والحوشيّ من الكلام كلَّ الاجتناب، وأداءُ أكثر ما يمكن من المعاني والأفكار بأقلّ ما يمكن من الألفاظ والفقرات – انضمّ إلى قافلة الكُتَّاب والمُؤَلِّفين بمجمع دار المصنفين : أكاديميّة "شبلي" في منتصف الستينيّات من القرن العشرين الميلاديّ عندما توفي الشيخ عبد السلام الندويّ الكاتب الباحث الكبير بالمجمع (1300-1376هـ = 1882-1956م)، فنصج قلمه، واختمرت قدرتُه الكتابيّة بصحبة كبار الكتاب والمُؤَلِّفين بالمجمع؛ فصار يحاكي أسلوبهم في الكتابة، ثم صار ذا أسلوب فريد يمتاز بالدقة والجزالة والمتانة في السهولة والعذوبة التي كانت تأسر قلوب القراء وعقولهم أسرًا؛ فكانوا لايسأمون قراءة كتاباته أيًّا كان موضوعها. بل كانوا ينهمون فيها نَهَمًا.

       ولم يكن مُجَرَّدَ أديب كاتب، وإنما كان ذا ثقافة واسعة، ودراسة شاملة لمختلف الموضوعات الإسلاميّة والتأريخيّة والأدبيّة؛ فدَّبَجت يراعتُه كتبًا قيّمة جمعت بين العلم والأدب، واللغة الرشيقة، والدراسة الدقيقة، وبصيرة المؤرخ، واستنتاج العالم. منها: إيضاحُ القرآن؛ والهند كما يراها العرب؛ وتذكرة المحدثين في ثلاثة أجزاء؛ والتعليم لدى المسلمين؛ ومولانا أبوالكلام آزاد.. أفكاره الدينية، وعمله صحفيًّا، ونضاله الوطنيّ؛ والديانات الهنديّة؛ ومدرسة الإصلاح.. تعريف موجز. إلى جانب مئات من المقالات العلميّة الدراسيّة والصحفيّة التي ظلّ يكتبها في مجلة "معارف" العلميّة الأرديّة التي كان يرأس تحريرها وفي غيرها من المجلات الجادّة في شبه القارة الهنديّة، والتي تناول فيها موضوعات ساخنة وثابتة بالدراسة والتحليل مما أفاد الأمة والوطن معًا، وأضاء لهما الطريقَ بين التعتيم الإعلامي العالميّ والمحلّي، ووَجَّهَهما – الأمة والوطن – بما يجب أن يصنعا لتفادي الأخطار والمضارّ التي يدفعهما إليها الطائفيّون والمفسدون والمشاغبون من طائفة الأغلبيّة الهندوسيّة المُوَجَّهون من قِبَل ثالوث الصهيونيّة العالميّة والصليبيّة الحاقدة والوثنيّة العمياء الجهلاء .

       عَمِلَ بمجمع دار المصنفين أكثر من خمسين عامًا في الفترة ما بين 1957 – 2008م (1376-1428هـ) باحثًا كاتبًا، ثم مديرًا له منذ نحو عشرين عامًا، ورئيس تحرير لمجلته الأكاديميّة الأرديّة "معارف" التي تُصَنَّف حقًّا مجلةً ذاتَ رقم واحد بين المجلاّت العلميَّة الأدبيَّة الأرديَّة في شبه القارة الهنديَّة خصوصًا وفي العالم كلِّه عمومًا. وذلك منذ وفاة رئيس تحريرها السابق الأديب الأرديّ والباحث الكبير الأستاذ السيّد صباح الدين عبد الرحمن الذي وافته المنية يوم 18/ نوفمبر 1987م (24/ ربيع الآخر 1408هـ). وكان الفقيد قد عمل من ذي قبل مديرًا لمدرسة الإصلاح المعروفة الكائنة بقرية "سرائي مير" بمديرية "أعظم جراه" نحو 11 عامًا. وكان إلى جانب إدارته للمجمع ورئاسته تحريرَ المجلة يعمل عضوًا في المجلس الإداري بدارالعلوم ندوة العلماء بـ"لكهنؤ" والمجلس الإداري بدارالعلوم تاج المساجد بمدينة "بهوبال" عاصمة ولاية "مدهيا براديش" والمجلس الإداري بجامعة الفلاح بقرية "بلريا كنج" بمديريةِ "أعظم جراه". كما كان عضوًا في كل من هيئة الأحوال الشخصيّة لمسلمي الهند وأكاديمية الأردية لولاية يوبي، واللجنة الإداريّة لجامعة عليجراه الإسلاميّة المعروفة، وأُكْرِمَ بجائزة البراعة في اللغة العربيّة لعام 1995م من قبل الحكومة الهندية التي يتم منحها بيد رئيس الجمهوريّة الهنديّة .

       كان الفقيد متخرجًا من "مدرسة الإصلاح" بـ "سرائي مير" وكسب المؤهلات الأدبيّة والقدرات الكتابيّة بجدّه الشخصي بجانب توجيهات أساتذته الأكفاء ، وصقلتها رحلتُه المتصلة على درب البحث والدراسة والكتابة والتأليف التي قام بها دونما كلل أو ملل؛ فصار كاتبًا أديبًا يشار إليه بالبنان. وهكذا يبلغ العلا كل من جّد واجتهد دون أن يفتر أو يني أو يقطع مشوارَه في وسط الطريق قبل أن يبلغ النهايةَ ويدرك الغايةَ .

       وُلِدَ رحمه الله في قرية "سهريا" إحدى قرى مديرية "أعظم جراه" يومَ الأربعاء: 26/ جمادى الأولى 1356هـ الموافق 3/ يوليو 1937م؛ فكان ابن قرية مُتَوَاضِعَة مُتَوَارِيَة وراءَ المزارع والحقول، ولم يكن ابن المدينة أو القرية الجامعة اللتين أبناؤهما يزعمون أنهم سُلاَّن الحضارة والثقافة؛ ولكن الجِدَّ والجَدَّ – الحظّ – يبلغان بالإنسان مبلغًا قد لا يتصوّره الإنسان الذي يعتمد في قياس قامة الإنسان ورقيّه المعنوي الأسبابَ والمُسَبَّبَاتِ والحساباتِ الظاهرةَ .

       وكان يُمَيِّز العالمَ الكاتبَ الأديب الشيخ ضياء الدين ما جُبِل وشبّ وشاب عليه من الخلق الحسن، والتواضع الكبير، الذي جعله حلوًا في عيون جميع القُرَبَاء والبُعَدَاء الذين عرفوه؛ فكان ذلك نورًا على نوره العلمي الأدبي الكتابيّ الذي زاده عِزًّا ورفعةً . والحقُّ أن التواضع قيمةٌ لا تُدَانِيه قيمةٌ من قِيَم الدنيا؛ حيث ترفع الإنسانَ بحيث تسقط القلانس عن رؤوس كلّ الذين يحاولون أن ينظروا إلى ذروة مجده وارتفاع قمّته.

*  *  *

*  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذو القعدة – ذوالحجة 1429هـ = نوفمبر–ديسمبر 2008م ، العـدد : 11-12 ، السنـة : 32